معنى وقوف الله إلى جوارك (1)
فلسفة عميقة جدا تلك التي تحتويها آيات القرآن حول موضوع نصرة الله للمظلوم، وإدراك تلك الفلسفة هو الذي يفسر لنا ألغاز موضوع تحقق انتقام المظلوم من الظالم، لأننا نرى أحيانا مظلوما مات قبل أن يأخذ حقه، ومظلوم آخر أخذ حقه لكنه انتهى بنهاية الظالم نفسه وكأنه تساوى به رغم أنه كان مظلوما، ومظلوم آخر أخذ حقه في الدنيا كاملا بشكل يشبه المعجزة .. وهذا التفاوت له دلالته على أن هناك طريقة واحدة هي الطريقة المثلي لأخذ الحق دون الوقوع في الظلم نفسه ..
وشروط هذه الطريقة تلخصها آية من القرآن خاصة بأشهر قصص الإنتصار على الظلم ألا وهى قصة يوسف عليه وعلى آبائه ونبينا الصلاة والسلام، حيث قال الله على لسان يوسف عندما أعلن انتصاره أمام إخوته.
[ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:90}.
الشرط الأول
أن نتق ونصبر، ومن الحماقة البشرية الكبرى أننا لا ندرك قيمة الجانب الإيجابي في التعرض للظلم, لأن الله تعالى هو العدل المطلق وبالتالي فإن المظلوم يضمن تدخل الله عز وجل لصالحه لكن التعجل وترك التقوى هو ما يقف خلف الخذلان، فالمظلوم إذا أحال أمره إلى الله بقوله ( حسبي الله ونعم الوكيل ) ينبغي له عدم الوقوع في فخ الشيطان إذا وسوس له بأن يسعي لأخذ حقه بقوته هو، بحيث يصبح اللجوء إلى الله شيمة الضعيف فقط وتلك مصيبة جامعة وثقافة منتشرة بين الناس حيث يتخيلون اللجوء إلى الله هو صفة من لا يملك قوة الردع بينما اللجوء إليه سبحانه شرط لازم لتحقيق انتقام نظيف من الظالم, بينما لو استبد الإنسان بقوته وحده يسحب الله منه تأييده ويجعل أمره إلى نفسه وبالتالي يقع المظلوم في فخ الإفتراء لغياب ستر الله عنه ويصبح أشد ظلما من ظالمه والتقوى هي التي جعلت التأييد الإلهي ليوسف تأييدا مطلقا حتى قال وفى قمة انتصاره أن الله هو من نصره ولم ينسب نصره إلى نفسه لهذا جعله الله من المحسنين ومن الأنبياء فضلا على منصب الحكم خلاف إخوته جميعا.
الشرط الثاني
الصبر .. فالله عز وجل خلق الإنسان عجولا وتعهد برحمته الواسعة لكل صبور, لذلك جعل من شروط إجابة الدعاء عدم الدعوة بالتعجيل، ولو أدرك الإنسان أن صبره يجعل انتقامه أقوى وأوقع مما يتصور لما تعجله, فيوسف خرج من مأزق إخوته ليجد الظلم عند من اتخذوه عبدا وباعوه بثمن بخس، ثم مر بالأزمة الثالثة وهى فتنة إمرأة العزيز، ثم الأزمة الرابعة بالسجن ظلما، ثم الأزمة الخامسة بأن ينسي رفيقه في السجن وصيته له فيطول مقامه في الحبس, فلما صبر لذلك كله خلق الله لأجله أزمة كبري عمت البلاد والعباد كي يجعله سببا في تفريجها, بعد أن منحه الله الموهبة لحلها، فيخرج يوسف عليه السلام من السجن إلى كرسي العزيز في أقوى دولة في زمنه، ثم تكتمل القصة بأن يجعل الله الأزمة سببا في قدوم إخوته وأهله عنده وهم في أضعف حال بينما يستقبلهم هو في أعز مكان ولا شك أن تلك اللحظة كانت أقوى وأعز من كافة الأزمات التي مر بها، وردا انتقاميا مهولا وشاملا بأكثر مما تمناه يوسف نفسه ..
الشرط الثالث
مما سبق نستطيع أن نفهم لماذا يتخلى الله عن مظلوم، وهو مخالفة الصبر والتقوى والاستبداد بالقوة، ونستطيع أيضا أن نفهم لماذا يتحقق الانتقام للمظلوم كاملا، وكذلك نستطيع أن نفهم لماذا لا يتحقق أحيانا أي انتقام للمظلوم في حياته، وهى الحالة الثالثة النادرة التي يجعل الله عز وجل الحساب والحق فيها للآخرة وذلك استجابة للمظلوم نفسه.
فهناك فئة من الناس تولاها الله برحمته واختارها لتقواه للدرجة التي جعلتهم يسألون الله الصبر طيلة حياتهم وأن يأخذوا حقهم كاملا في الآخرة لا ينقص منه نعمة رد الحق في الدنيا وشفاء الصدر من الظالم، وهؤلاء هم القلة التي يجزيها الله عز وجل بمقام بالصابرين يوم القيامة فيجعلهم يدخلون الجنة بدون حساب أصلا، ورغم هذا يرد الله حقهم بعد وفاتهم من الظالم ولكن دون أن ينقص هذا ذرة من أجرهم، بل يكون المقابل الأجمل أن يعطى الله أبناءهم وذويهم هذه الفرصة كرامة من عنده فضلا على جزائهم في الآخرة.
نسأل الله عفوه وعافيته….